ترجع جذور ميلاد الحضارة الهيلينية إلى مدينة أثينا التي كانت تعبّر عن شكل الدولة ونمط الحياة الثقافية الجديدة، أكثر من أن تكون مجرد مدينة. وقد خاضت أثينا صراعاً على نحو خاص بها تجاه الدولة المتمركزة في إسبارطة داخلياً وبرسابوليس خارجياً. واستخدمت سلاح الديمقراطية الأكثر فتكاً لدى الطبقة العبودية، لتتفوق في المحصلة على سائر المدن الهيلينية والشرقية على حد سواء من جهة، ولتشكل أحد أكثر نماذج الحضارة العبودية إبداعاً ونضوجاً من جهة ثانية. هذا وكان لها الفضل البارز في عبور الإنسانية بذهنيتها من نمط التفكير الميثيولوجي والديني السائد منذ آلاف السنين إلى نمط التفيكر الفلسفي. ويعد كل من سقراط، أفلاطون وأرسطو أنبياء هذا النمط الجديد. ولأول مرة انفصل الفن عن مراسيم الطقوس الدينية لينال استقلاليته، وتعاظم الفنانون المتنورون والفلاسفة ليتركوا آثاراً لا تُمحى في ولادة نماذج الحياة الجديدة في سائر الميادين الهيلينية. ووصل العلم بكافة فروعه مستويات أرفع، وفي مقدمتها الطب، الهندسة، الفيزياء، الفلك، الرياضيات. ولا يمكن تجاهل أو رفض الأواصر القائمة بين هذه التطورات وديمقراطية أثينا.
إلا أن أثينا لم تتورع عن الحكم بالموت على سقراط الذي كان رمزاً لهذه الحضارة في نفس الوقت. كيف يمكننا إيضاح هذا التناقض؟ ليس من الصعب تلمس هذا الطابع المتناقض على الفور. إذ، وبينما يتواجد مبدعو وصائغو جميعة الانطلاقات الإنسانية الحضارية العريقة في أثينا من جانب؛ نرى فيها من الجانب الآخر وجوداً قوياً وراسخاً لطبقة أرستقراطية طفيلية، ماكرة وخبيثة، ارتقت إلى مصافّها بفنون الإدراة العبودية والطراز الاستعماري العبودي لا غير. إنها طبقة متطفلة لدرجة لا ترى الحاجة حتى لتسوية ظهرها لدى تناولها الطعام. وهي التي ابتكرت التعبير الأكثر ديماغوجية للديمقراطية لتتحكم في الـ"ديمو – قراطيا" (حكم – الشعب) كتحكُّم الراعي بالماشية. وهذا هو الوجة الآخر للحقيقة. لذا فأثينا هي مهد الديمقراطية، ومهد الديماغوجية والرياء الخفي ومركزهما، كجزء لا يتجزأ من طابعها العام. وتصل الأمور إلى درجة لا يمكن الفصل فيها بين الديمقراطية والديماغوجية بحدود فاصلة. ولأثينا هديةٌ كهذه تُقدِّمها للإنسانية. ولطالما شهد التاريخ ساسةً من أثينا، لا عَدَّ لهم ولا حصر، يتوجهون نحو الخيانة بسفالة ودون أن ترفّ لهم عين، على نقيض ما مثّله "بريكليس Perikles" من ديمقراطية حقة. وما محاكمة سقراط سوى مثال مصغَّر لهذه الحقيقة الكائنة.
وكأن الإلهة "أثينا"، التي يُذكَر اسمها في ملحمة الإلياذة حيث تتقمص (تتنكر في) شخصية "ديافوبوس" أخو هكتور الذي لا يُقهر كي تزجه في حرب يكون مصيره فيها الهزيمة؛ قد لعبت اللعبة نفسها تجاه سقراط أيضاً. وإن دل هذا على شيء إنما يدل على أن عامل الأرستقراطية والاستبداد موجود منذ البداية كخاصية بارزة في الثقافة الهيلينية، وأن الطبقة الاستعبادية - أو الطبقة الاستعمارية الحاكمة بشكل أعمّ – لم تتمكن من استعمار الشعب وإدارته إلا بجوهرها الثقافي الديماغوجي الذي لا تغيب فيه المؤامرات والدسائس قط. يقال بأن الإله زيوس قد أنجب الإلهة أثينا من جبينه. فإذا ما اعتبرنا زيوس رمزاً للاستبداد الهيليني المتفوق والمتصاعد، سندرك على نحو أفضل كيفية تشكُّل الوجه الآخر المتمثل في الإلهة "أثينا" المولودة من جبينه، والمدينة أثينا المسماة على اسمها. وعلينا ألا نستغرب من عجز الفيلسوف سقراط عن تحليل هذه الخاصية لأثينا. فأثينا كانت على الدوام رمزاً لأكثر الأمثلة تقدماً ورفعة في الاستبداد الفردي والطبقي تحت قناع الديمقراطية. ونقمة إسبارطة الكبيرة والمُحِقَّة ليست هباءً، فإسبارطة تمثل الطبقة النبيلة والسخيّة تجاه أثينا، وإن كان بطراز مَلَكي. نصادف في كتاب هيرودوت جُمَلاً من قبيل: داريوس الأكبر ناقم جداً على دسائس ومكر أثينا. ويُذكَر فيه أنه قال لطبّاخه "كلما جلبتَ لي الطعام، عليك بالقول: لا تَنْسَ الأثينيين (أي أبناء أثينا) أيها المَلِك!". كما يقول: "أيها الرب زيوس، دعنا نُوقِفُ أبناء أثينا عند حَدِّهم!". إذن، بينما يشكِّل سقراط، أفلاطون، أرسطو وبريكليس الوجهَ الأول لديمقراطية أثينا، فإن الوجه الثاني ليس إلا عدداً لا يُحصى من الديماغوجيين والدسّاسين المَكَرة والدجالين.
يمكن القول أن هذا الطابع المتناقض في الثقافة الهيلينية يكمن في أساس الثقافة الغربية سائرة. إذ، وبينما يعد الصدق خاصية أساسية بارزة في الثقافة الشرقية، نرى أن الخداع والكذب والديماغوجية ينعكس في الثقافة الغربية على الضد منه. إنها من روائع التطور الدياليكتيكي التي لا غنى عنها ولا بد منها. فالصح يتطور بخلق نقيضه. يتوارى في أغوار هذه الحقيقة أيضاً، الإرث الثقافي الغني الذي ترتكز إليه الثقافة الهيلينية. وإذا كانت هذه الثقافة معرضة للنهب والاختلاس من أربعة جهات (الأناضول، فينيقيا، مصر وكريت)، فإن إخفاء ذلك والتستر عليه يتطلب بدوره ديماغوجية كبرى. فالهيلينيون قاموا بالإبداع، وساهموا في التطورات والتحولات بإقبال ناجح موفق، إلا أنهم لم يتورعوا أو يترددوا بتاتاً عن تَبَنّي كل ما لم تهضمه مَعِداتُهُم أو تتقبله عقولهم من عناصر، بتعابير ديماغوجية. وفي حين نجد التقليد البسيط لسومر ومصر في نظام الآلهة الهيلينيين، تعد مساهماتهم من الجانب الآخر إلهياتٍِ (teoloji) يغلب عليها الوجه البشري. وما "هسيودوس Hesiodus" في الواقع سوى أبرز الأنبياء في المعطيات الهيلينية المنتهلة من الإلهيات السومرية بالأغلب. كذلك الأمر بالنسبة لملحمتَي الإلياذة والأوديسا لـ"هوميروس"، اللتين تعدان في الأصل الشكل المستحدث لملحمة كلكامش كما دَوَّنها الهوريون – الحثيون.
ورغم أن الميثيولوجيا والإلهيات السومرية هي الأصلية، إلا أنه حين التمعن فيها وتقييمها بدقة، سيلاحَظ بكل وضوح أنها ترمز إلى "الإله – المَلِك" في الحضارة العبودية المزدهرة. وكل الإلهيات اللاحقة لها زادت هذه التكوينة الأصلية جمالاً وزركشة، وقدّمَتْها لأناسها بعد أن طابقتها مع ظروفها المحلية. حمل الفن بكل فروعه، وفي مقدمتها الأدب وحتى العلم والفلسفة أيضاً، بين طياته الآثار العميقة لهذه التقاليد ليصل بها إلى يومنا الراهن. ويالها من صدفة مؤلمة أن تكون الآلهة التي زَجَّ بها كلٌّ من صدام وبوش في ساحة الحرب زاعمَين بأن "آلهتي هي الأقوى"، تمتلك في مكان الاقتتال ذاك، فرصةَ ولادةِ الجديد أيضاً. كل الحضارات المبنية على استغلال كدح الإنسان واستثمار القيمة الزائدة، لم تفقد جوهرها بتاتاً منذ نشوئها، بل وتمكنت من الاستمرار في كل البنى الفوقية والتحتية القائمة. وهذا بحد ذاته أمر مثير للدهشة حقاً. لم يظهر الرياء والديماغوجيا إلا لابتلاع هذه الحقيقة وهضمها دون الشعور بذلك. أما العلم، الفلسفة، الدين والفن، فلكي يصل بالإنسانية إلى حالة يمكن تحمُّلها. وإذا لم يَفِ هذا بالغرض تبدأ حينئذ ثقافة المجازر المتعاقبة بدءاً من صلب آلاف الأشخاص، ووصولاً إلى إلقاء الكثيرين منهم فريسة سائغة للحيوانات المفترسة في حَلَبات الصراع لتقطعهم إرباً إرباً، ومن قطع الرؤوس إلى تقطيع الأجساد إلى فتات وأشلاء. وبكل سهولة تُنعَت أسفار المجازر على أنها بطولات أو مقدسات إلهية. ويصبح الزج في السجون، وممارسة كل أشكال التعذيب،حالة لا تغيب ولا يقل شأنها قط. أما ما يقع على عاتق الشعوب والإنسانية، فليس إلا الخنوع والخضوع لهذا التاريخ المثير للدهشة والفزع. في هذه النقطة بالذات، تتمثل مساهمة الطبقة الهيلينية الحاكمة، في التحريف الديماغوجي الأكثر دقة وخِفْيَة للديمقراطية. وما تجرُّع سقراط لِسُمِّ الشَوكَران (وهو نبات مخدِّر سام Baldıran) بيديه، سوى انعكاس للطابع الهيليني في ثقافة النظام المريعة هذه. ولا غرابة في ذلك. لفهم هذه الحقيقة باعتباري "آبو"، كان جلياً أنه لا بد من الفهم الصحيح للهيلينية كجزء لا يتجزأ من حضارة المجتمع الطبقي. إلا أن هذا بدوره لم يكن بوسعي أن أفهمه إلا بعد أن عشت هذا الوضع المريع الذي أقحموني فيه. إذ، ثمة حقائق لا يمكن فهمها ما لم يتم عيشها.
من الضروري إضافة النتيجة التالية أيضاً: كل الشعوب وصلت إلى يومنا الراهن وهي تتخبط منذ بزوغ فجر الحضارة في متاهات الأساليب الإدارية والاستعمارية لكل سيد أو استبدادي أو طبقة حاكمة، وتجتر حتى النخاع مخاضات كذبهم وريائهم وديماغوجياتهم وتعذيباتهم ومجازرهم. ولا يزال "الفرد الحر" و"الشعب الحر" حُلماً وأملاً، إذ يتمتع أصحاب السلطة الهرمية فقط بنسبة معينة من الحرية الظاهرية في مناطق نفوذهم، بينما نراهم لا يدّخرون جهداً في إغداق الوعود الكاذبة والآمال الفارغة والأماني المستحيلة التي لا نهاية لها، على الشعوب والأفراد